• 2020-10-25

مسك الختام

علبة سجائر

مع اقتراب موعد رجوع عاملات المنازل إلى موطنهم غالبًا ما تتكون لديهم قائمة بالمشاوير التي يودون قضائها في الأسواق لشراء الهدايا التذكارية لأسرهم، كذلك كانت "إندا" العاملة الأندونيسية المسلمة في منزلنا قبل ما يقارب الثلاثة عشر عامًا، عندما اقترب موعد انتهاء عقدها قدمت إلينا قائمة المحلات والأسواق التي ترغب بالذهاب إليها قبل حلول موعد سفرها.
وكّلت أمي الحبيبة أختي "فجر ـ ممهدة الطريق"؛ لأن الفجر يظهر أولًا ليمهد الطريق لباقي اليوم أطلقت على فجر ممهدة الطريق - بالذهاب معها لقضاء مشاويرها حيث أنها الابنة الكبرى والوحيدة التي كانت تملك رخصة قيادة في حينها، وبطبيعة الحال رافقنا نحن "فجر وإندا" في رحلة إتمام متطلبات الرجوع إلى موطن "إندا".
بين سوق الذهب وبعض محلات الملابس و"السوبر ماركت" كانت الرحلة تبدأ عصرًا على أنغام الألبوم الانشادي "يا ليل"، كان الألبوم قد نزل للتو في الأسواق بلونه البنفسجي الغامق والذي يبدأ بنشيدة حمود الخضر الشهيرة" يا ليل يا بحر السكون ماذا طويت من القرون"، وللأمانة هي من الأناشيد التي لها القدرة على نسج دثار دافئ حول قلبك، ونقلك زمانيًا إلى فترة الليل، ومكانيًا إلى مكان يشبه الوقوف على مكان مرتفع لمراقبة سكون الليل من علوّ كل ذلك بالاستماع إلى كلماتها العميقة وربما طريقة أدائها أيضًا، هكذا حتى يرتفع أذان المغرب ليحين موعد الرجوع إلى المنزل.
في آخر يوم من أيام جولات التسوق مع "إندا" تذكرت بأنها لم تقم بشراء أي هدية لوالدها، ودون أن تستغرق بالتفكير طلبت أن تشتري له علبة سجائر وحينها كنا بالقرب من بيت جدّي في المحرق، فاضطررنا إلى التوقف عند "البرّادة" التي كانت بجانبه والتي كان العاملون فيها يعرفوننا جيدًا، ومع هذا الغرض المثير للريبة فضلنا أن تطلب "إندا" علبة السجائر بنفسها، فأنزلت هي النافذة وطلبت العلبة من العامل، غاب العامل قليلًا ثم جاء بكيس ورقي، معتم، بني اللون، مغلق جيدًا يختلف عن الأكياس النايلون الخفيفة المعتادة وسلّمه لـ"إندا"، لا أعلم إذا ما كان فعل ذلك لأنه تعرف علينا وأراد لنا الستر، أو خشية الفضيحة لأن الطلب كان غير معتاد من قبل النساء، المهم بأنه تصرف بشهامة.
أخيرًا سألتها إذا كان لديها أي مكان آخر ترغب بالذهاب إليه، ابتسمت على استحياء وقالت أريد "كاسيت" وهي تومئ على جهة المسجل، وبعد سؤال وجواب أوضحت مقصدها أخيرًا بأنها تريد نفس "الكاسيت" الذي نستمع إليه وهي تشير إلى قلبها في دلالة على أنه حرّك المشاعر بداخلها، عرجنا على شارع المطاعم في المحرق إلى محل "تسجيلات الأقصى" والحمد لله كان لديهم ألبوم "يا ليل" على نسخة شريط التسجيل، أهديناها إياه ونحن نتخيل صوت حمود الخضر وهو يصدح في شوارع أندونيسيا.
حان وقت الرحيل.. "إندا" تحمل حقيبتها الكبيرة وأشواقها الأكبر ونحن نحمل لها الامتنان والشكر..
مما لا شك فيه أن البشر قد يتفرقون باللغة، لكن أحيانًا قد تجمعهم طريقة أداء هذه اللغة.. المعادلة غريبة من كان يتخيل أن يجتمع حمود الخضر مع علبة سجائر والد "إندا" الأندونيسية!